تونس- فوز سعيد وسط مقاطعة وانقسام.. وماذا بعد؟

المؤلف: جمال الطاهر10.06.2025
تونس- فوز سعيد وسط مقاطعة وانقسام.. وماذا بعد؟

في يوم الثلاثاء الموافق الثامن من شهر أكتوبر/تشرين الأول، طويت صفحة الانتخابات الرئاسية في تونس، حيث أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عن فوز الرئيس قيس سعيد بفترة رئاسية ثانية، بعد أن حصد أكثر من 90% من أصوات الناخبين. وجاء في المرتبة الثانية المترشح السجين العياشي زمال بنسبة 7.3%، بينما حلّ ثالثًا المترشح زهير المغزاوي بنسبة ضئيلة لم تتجاوز 1.97%.

وكما كان مُتوقعًا، شهدت هذه الانتخابات، على غرار سابقاتها التي نظمها قيس سعيد منذ الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها في 25 يوليو/تموز 2021، عزوفًا جماهيريًا لافتًا وغير مسبوق منذ عام 2011. إذ لم تتعد نسبة المشاركة في الاقتراع 28.8% من إجمالي الناخبين المسجلين، في حين قاطعت الغالبية العظمى من التونسيين الانتخابات، بنسبة بلغت 71.2%.

وإذا ما قارنّا بين حقبة الانتقال الديمقراطي التي استمرت عقدًا من الزمن، وبين الثلاث سنوات التي قضاها سعيد في الحكم المطلق، نجد أن الأرقام تشير إلى أن نسبة المشاركة في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية لعام 2014 بلغت 60%، بينما شارك 55% من الناخبين في الدور الثاني من انتخابات عام 2019، التي فاز بها قيس سعيد.

مواقف متباينة

وكما كان متوقعًا أيضًا، تباينت المواقف إزاء نتائج الانتخابات، وتعدّدت القراءات والتحليلات لنتائجها، واختلفت التوقعات بشأن توجهات الرئيس سعيد وسياساته في إدارة ولايته الرئاسية الثانية والأخيرة، وفقًا للدستور الذي صاغه بنفسه في عام 2022.

لم يتردد مناصرو الرئيس في التعبير عن ابتهاجهم بالنتائج، التي اعتبروها متوقعة، ورأوا فيها تفويضًا شعبيًا لقيس سعيد، وتعبيرًا عن الثقة بشخصه وبمشروعه "البناء والتشييد"، الذي يرونه جزءًا لا يتجزأ من معركة التحرر الوطني التي أعلنها قبيل الانتخابات. ولم يبدِ هؤلاء أي اعتراض على الانتهاكات والتجاوزات التي شابت المسار الانتخابي، مما يعكس اعتقادهم بسلامة هذا المسار، وصدقية النتائج، وتمثيليتها لإرادة الشعب.

مجتمع سياسي رافض

في المقابل، أصدرت قوى المعارضة مواقف معارضة، عبّرت فيها، بصيغ ودرجات متفاوتة، عن عدم اعترافها بنتائج الانتخابات، وذلك بسبب الخروقات والتجاوزات العديدة التي ارتكبتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، والتي رأوا أنها كانت تهدف إلى خدمة مترشح بعينه. ومن بين هذه التجاوزات، التضييق على شروط الترشح، ورفض تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية بإعادة ثلاثة من المترشحين إلى السباق الانتخابي، فضلاً عن منع المنظمات المحلية والدولية من مراقبة عمليات الاقتراع.

بالإضافة إلى ذلك، قامت السلطات بمنع الإعلاميين من تغطية الانتخابات، وسحبت اعتماداتهم، واتخذت إجراءات أخرى شملت سجن المترشح العياشي زمّال، وتحريك قضايا بتهم انتخابية ضد العديد من المترشحين الجديين. كما قامت بتعديل القانون الانتخابي قبل أيام قليلة من يوم الاقتراع، وسحبت اختصاص البت في النزاعات الانتخابية من المحكمة الإدارية، وأحالته إلى القضاء العدلي، مما يعني إلغاء قرارات المحكمة الإدارية لصالح المترشحين الذين قضت بإعادتهم إلى السباق الانتخابي.

وقد استبق حزب التيار الديمقراطي صدور نتائج الانتخابات، وأعلن قبل أيام من يوم الاقتراع أنه "يعتبر الانتخابات فاقدة لكل مصداقية، وأنه لن يعترف بشرعيتها وبالنتائج التي ستفرزها، لأنها لن تكون معبّرة بأي حال من الأحوال عن إرادة الشعب التونسي". وبرّر الحزب موقفه بعدم سلامة المسار الانتخابي، وغياب الأمان الانتخابي. ودعا الحزب "جميع القوى الوطنية من أحزاب وجمعيات ومنظمات وسائر التونسيين إلى مواصلة النضال السلمي المدني للدفاع عن حقوقهم وحرياتهم، والتصدي للانحراف الاستبدادي الشعبوي الذي تكرّسه السلطة القائمة، إلى حين استرجاع المسار الديمقراطي، وتكريس قيم ومبادئ دولة القانون والمؤسسات التي نادت بها الثورة، وفرض حقّهم في الاختيار الحرّ لمن يحكمهم".

وفي السياق ذاته، وصفت خمسة أحزاب يسارية (التكتل، القطب، المسار، العمال والاشتراكي) الانتخابات، في ندوة صحفية قبل يوم الاقتراع، بأنها "غير شرعية"، ودعت التونسيين إلى مقاطعتها بالامتناع عن التصويت، وإحداث فراغ في الصناديق، معتبرة أن "هذه الانتخابات فاقدة لأي شرعية دستورية أو قانونية أو تمثيلية شعبية". كما دعت هذه الأحزاب إلى "النضال من أجل تونس جديدة تقطع بشكل نهائي مع الدكتاتورية والاستبداد والتفقير والتهميش، وتوحيد كل القوى الديمقراطية التقدمية من أجل بديل آخر".

وفي ظل غياب بيان رسمي، على الأقل حتى الآن، لجبهة الخلاص الوطني (حركة النهضة وحلفائها)، وهي المعارضة الرئيسية لقيس سعيد، اعتبر الأستاذ أحمد نجيب الشابي، رئيس الجبهة، في تدوينة له على صفحته على فيسبوك، أن النتائج المعلنة "تؤكد التوقعات التي ذهب إليها المراقبون في الداخل والخارج منذ أشهر طويلة، بإعراض الغالبية العظمى للشعب التونسي عن المشاركة في اختيار رئيسهم، ومبايعة شبه مطلقة للرئيس المنتهية ولايته من قبل الأقلية المشاركة في الاقتراع".

مضيفًا أن "هذه التوقعات لم تكن من باب التنبؤ أو الرجم بالغيب، وإنما نتيجة قراءة هادئة ومتأنية للواقع الذي يسوده يأس لدى عامة الناس من الحياة السياسية، وانشغال عنها بهمومهم الاقتصادية والاجتماعية، وانعدام أدنى شروط المنافسة النزيهة بعد أن جرفت السلطة كافة الحقوق والحريات، وزجّت بقيادات الرأي من سياسيين وإعلاميين في السجن، وذهبت إلى أبعد مما كان يتصور فلاحقت المترشحين وزجّت ببعضهم في السجن مع حرمانهم من حق الترشح مدى الحياة. وضربت عرض الحائط بقرارات المحكمة الإدارية التي أذنت بقبول بعض الترشحات، وفي خطوة بهلوانية قام البرلمان بمراجعة القانون الانتخابي وفقًا لإجراءات استعجال النظر لتجريد المحكمة الإدارية من اختصاصها كقاضٍ لمراقبة الانتخابات".

أما حركة النهضة، فقد صرّح الأستاذ بلقاسم حسن، عضو المكتب التنفيذي، نائب رئيس المكتب السياسي، بأن مؤسسات الحركة بصدد التشاور لبناء موقفها الذي ستعلن عنه في حينه، مجدّدًا ثوابت الحركة في التأكيد على حاجة البلاد إلى تنقية الأجواء بإطلاق سراح المساجين السياسيين وقادة الرأي من إعلاميين ومدوّنين، وإلى الحوار بين الجميع من أجل بناء حالة وطنية ديمقراطية جامعة تسمح باجتراح الحلول المطلوبة لمواجهة التحديات والمخاطر المتعاظمة، وخاصة الاقتصادية والاجتماعية.

وفي سياق متصل، عبّر المترشحان اللذان أقصتهما الهيئة العليا المستقلة للانتخابات أولًا، ثم رفضت إعادتهما للسباق الانتخابي ثانيًا، منذر الزنايدي وعماد الدائمي، في بيانَين منفردَين عن عدم اعترافهما بشرعية نتائج الانتخابات، مذكّرين باعتراضهما على المسار الانتخابي، لما قامت به الهيئة من تجاوزات وانتهاكات جيّرت كل المسار لصالح مترشح واحد هو قيس سعيد، وجعلت من المسار غير قانوني، وجعلت من النتائج غير شرعية.

مجتمع مدني غاضب

أصدرت منظمة "أنا يقظ"، المتخصصة في مراقبة الانتخابات، بيانًا بعد يوم من إعلان النتائج الأولية، جاء فيه أنها "تابعت المسار الانتخابي رغم منعها من ملاحظته بصفة تعسّفية من قبل الهيئة العليا "غير" المستقلة للانتخابات"، وأنها "لم تتفاجأ بالنتائج المعلن عنها بفوز قيس سعيد بولاية ثانية وأخيرة، وبنسب تذكّرنا بنتائج الانتخابات المجراة في السنوات السّابقة للثورة، وذلك لاشتراكها في الممارسات".

وأردفت المنظمة أن "ضعف نسبة الإقبال مقارنة بالانتخابات الرئاسية المجراة سنوات 2014 و2019 بصفة عامّة، والعزوف الملحوظ للشباب بصفة خاصّة ليس إلّا دليلًا قطعيًا على فشل مختلف الأطراف المتداخلة في الانتخابات في بناء ثقة الناخبين في المسار الانتخابي".

وفي وقت سابق ليوم الاقتراع، استنكرت أربع منظمات مهتمة بمراقبة الانتخابات في بيان مشترك "حرمان منظمات وصحفيين من ملاحظة الانتخابات وتغطيتها، معتبرة أن المسّ من حق الاعتماد هو محاولة لمنع المجتمع المدني من دوره في مراقبة الانتخابات، وانتهاك صارخ للقانون وللأسس الديمقراطية".

وماذا بعد؟

ظلّ الصراع بين رؤيتين متباينتين يهيمن على المشهد العام في تونس منذ الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها قيس سعيد في 25 يوليو/تموز 2021، وصولًا إلى الانتخابات التي جرت في السادس من أكتوبر/تشرين الأول الجاري. رؤية تتبناها السلطة، وتبشّر بمستقبل زاهر لتونس، تحت شعار "معركة التحرير ومرحلة البناء والتشييد"، ورؤية أخرى تتبناها المعارضة، وترفع لواء "إسقاط الانقلاب والعودة إلى حالة الحريات والديمقراطية".

إن هذا الحدث الانتخابي وما أسفر عنه من نتائج، يفرض على كل من السلطة والمعارضة على حد سواء، بصرف النظر عن مدى الاعتراض على المسار الانتخابي أو التشكيك في شرعية النتائج ومدى تمثيليتها لإرادة الشعب، أن تضع كل منهما تصوراتها للمرحلة القادمة. فهل ستستمر المعارضة في وصف قيس سعيد بالمنقلب، على الرغم من إعادة انتخابه؟ أم ستضيف إلى وصفه بالمنقلب وصف "المزور للانتخابات"؟ أم ستغير موقفها وتقبل بنتائج الانتخابات، وتواصل معارضة سياساته؟

أما من جانب السلطة، فهل ستعدل عن نهجها الأحادي في إدارة شؤون البلاد، وتتبنى قدرًا من التشاركية مع الأحزاب والمنظمات، وترفع قبضتها الحديدية عن الحريات، من خلال إلغاء المرسوم 54، وإطلاق سراح السياسيين والمدونين والإعلاميين ورجال الأعمال من السجون، والسماح بعودة المهجرين، وإلغاء إجراءات المنع من السفر؟ أم أنها ستتواصل في اتباع نفس النهج، وربما بمزيد من الصرامة، استنادًا إلى نتائج الصندوق والشرعية الانتخابية "الواسعة" التي يتمتع بها الرئيس، على الرغم من أنها جاءت من أقلية ضعيفة (28.8%)، وفي ظل مقاطعة واسعة جدًا (أكثر من سبعين بالمائة)؟

يبقى السؤال المطروح: هل ستعترف الرؤيتان، رؤية السلطة ورؤية المعارضة، ببعضهما البعض، وتتخليان عن حالة التنافي المتبادل، وتلتقيان حول رؤية مشتركة أو متقاربة للمرحلة القادمة، استنادًا إلى نتائج الانتخابات، بما يؤدي إلى قيام حالة وطنية جديدة مستقرة؟ أم أن الرؤيتين ستستمران في حالة التنافر، بحيث تواصل السلطة نهجها الأحادي الاستبدادي، بينما تواصل المعارضة عدم الاعتراف بالسلطة، بحجة أنها انقلبت في 25 يوليو/تموز 2021، وزوّرت الانتخابات في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024، مما قد يؤدي إلى حالة من الاحتراب الأهلي؟

على الرغم من إعلان بعض أطراف المعارضة مواقفها من نتائج الانتخابات ومن سلطة قيس سعيد، فإن أطرافًا أخرى، تعتبر هي الأكثر تأثيرًا في المشهد السياسي في تونس، لم تعلن بعد عن مواقفها، مثل: جبهة الخلاص، وحركة النهضة، والاتحاد العام التونسي للشغل.

أما من جهة السلطة، وعلى الرغم من التصريحات التي أدلى بها شقيق الرئيس، الأستاذ نوفل سعيد، لإحدى الإذاعات الخاصة في تونس، فإن قيس سعيد لم يفصح بعد عن سياساته وتوجهاته لإدارة ولايته الثانية والأخيرة، ومن المرجح أن يفعل ذلك قريبًا في خطاب القسم المنتظر أمام الغرفتين: مجلس نواب الشعب، والمجلس الوطني للجهات والأقاليم.

 

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة